سورة الرعد - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرّعد: 13/ 33- 35].
هذا لون من النّقاش والحجاج الهادئ مع المشركين يتضمن توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم، ونفي الدليل النقلي والدليل العقلي على استحقاق تلك الشركاء أي لون من العبادة. والمعنى: إن الله مطّلع على كل نفس، عالم بما يكسب كل إنسان من أعمال الخير والشّر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم، كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرّا، وكيف يتّخذونه ربّا يطلبون منه النّفع ودفع الضّرر، والمراد نفي المماثلة المطلقة. وقوله سبحانه: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} معناه: أفمن هو هكذا أحقّ بالعبادة أم الجمادات التي لا تضرّ ولا تنفع؟! كيف يقبل الوثنيون بشيء من التّفكر والتّأمل عبادة الأوثان، وكيف يتخذون شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام ونحوها، عاجزة مخلوقة لا شيء لديها من مقومات الفاعلية والحركة؟! وهذا يستتبع توبيخا وتحدّيا لهم، كما في قوله سبحانه: { قُلْ سَمُّوهُمْ} أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة، لعدم تصوّر أي نفع منهم أو دفع ضرّ أو جلبه منهم، {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} يراد به: أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم لأنه لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها الله الذي لا تخفى عليه خافية، وهذا نفي لوجودها، والاستفهام استفهام توبيخ. وهو إضراب عن قولهم وتقرير مضمونه: هل تعلمون الله بما لا يعلم؟! وكلمة {أَمْ} بمعنى {بَلْ} وألف الاستفهام، على مذهب سيبويه.
بل أتسمّونهم شركاء بظنّ ظاهر أجوف من القول أنهم ينفعون ويضرّون، أم بباطل من القول، والمعنى: إنما عبدتم هذه الأصنام بظنّ منكم أنها تنفع وتضرّ، وسميتموها آلهة، وهو ظنّ فاسد، ووصف باطل، وتصوّر خطأ محض، لا أساس له من الصحة والواقع. هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر؟ لأن ظاهر الأمر فيه التباس وموضع احتمال؟ وما لم يكن إلا بظاهر من القول فقط، فلا شبهة له.
{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} الواقع أنه لا فائدة من نقاش المشركين ومحاجتهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم وسخفهم، وهو ما هم عليه من الضّلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار. و{مَكْرُهُمْ} لفظ يعمّ أقوالهم وأفعالهم المناقضة للشرع. {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} أي وتأكيد للواقع أنهم صرفوا عن سبيل الحقّ وسبيل الله والدّين الأقوم، بما زيّن لهم من صحة ما هم عليه.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} ومن يخذله الله لكفره وعصيانه وضلاله، فماله من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة.
ثم جاءهم الوعيد الإلهي الرهيب والإنذار بالجزاء الشديد، وهو أن لهم عذابا مؤلما في الدنيا بأيدي المؤمنين، بالقتل والأسر والذّلّ والدّمار، والبلاء ألوان المصائب في أجسامهم وغير ذلك، ولهم عذاب الآخرة وهو الاحتراق في نيران الجحيم الذي هو أشدّ وأصعب وأنكى من عذاب الدنيا، وليس لهم ساتر يقيهم أو يحميهم من ذلك العذاب.
وأما أتقياء المؤمنين المبتعدين عن كل ألوان الشّرك، فلهم ثواب الجنة ذات الجمال المطلق والراحة الأبدية، ونعت الجنة أو وصفها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنة التي وعدها الله للمتقين ذات أنهار تجري في أنحائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، ما يؤكل فيها من المطاعم والمشارب دائم مستمر لا ينقطع، وكذلك ظلّها دائم، لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد، تلك الجنة هي عاقبة ومصير أهل التقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنبهم. والمراد أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب، موصوفة بصفة الدوام. والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين، قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 19/ 63].
وقال سبحانه: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} [الزّخرف: 43/ 71].
موقف أهل الكتاب والمشركين من نبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم:
كان المعارضون لدعوة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم فريقين: فريق المؤمنين المؤيدين، وفريق الجاحدين المنكرين الذين يتمسكون بشبهات واهية وأعذار ساقطة، لتسويغ انحرافهم بتأويلات لا يمكن قبولها أو الحماس لها، فاستحقت أن تطوى من تاريخ الفكر والعلوم. وهكذا أصبحت أفكارهم منقولة على سبيل التعجب من انحدار العقل البشري، والاتّعاظ من آفة الضلال التي تعصف بأصحابها وتهوي بهم في دركات الجحيم. قال الله تعالى واصفا موقف بعض أهل الكتاب والمشركين المعترضين على تصرّفات النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأحكام دينه:


{وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)} [الرّعد: 13/ 36- 39].
هذه الآيات وصف لأحوال المعاصرين للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فهناك مؤمنو أهل الكتاب الذين يفرحون بما ينزل على النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم في القرآن من تصديق شرائعهم وما يألفونه من أحكام ربّهم، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وسلمان الفارسي وجماعة، من نصارى الحبشة واليمن ونجران، وعددهم ثمانون رجلا.
وهناك جماعة أخرى من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي والسيد والعاقب أسقفي نجران وأتباعهم، هؤلاء ينكرون بعض ما جاءك أيها النّبي من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
فجاء الرّد الإلهي عليهم، وأمر الله تعالى رسوله أن يطرح اختلافهم، وأن يصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله، وترك الإشراك والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع عند البعث إلى الله يوم القيامة. وهذا إعلان صريح بأن دعوة الإسلام تقوم على مبدأ التوحيد ورفض الشّرك، وإثبات البعث والحساب يوم القيامة.
ثم أوضح الله تعالى منهج القرآن وأسلوبه في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله، بأسلوب عربي فصيح، واضح، سهل الفهم، وقريب التّلقي. فكما أرسلنا قبلك المرسلين أيها النّبي، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك سهلنا عليهم في ذلك وتفضّلنا في تفصيل أصول الاعتقاد، فأنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا بلسان قومك: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا...} ليسهل عليهم فهمه وحفظه، ويبين لهم الأمور، ويفصل بين الحقّ والباطل، فيوضح الحلال والحرام، والشرائع والأحكام والأنظمة المؤدية لسعادة الدنيا والآخرة. والحكم في قوله تعالى: {حُكْماً عَرَبِيًّا}: ما تضمنه القرآن من المعاني بلغة العرب الفصحى.
ولئن اتّبعت يا محمد- على سبيل الافتراض- آراء تلك الفرق الضّالة، وهذا يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة، مثل مجاملتهم في باطل عقائدهم وأهوائهم، بعد ما عرفت الحق، وجاءك العلم الصحيح، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبيل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدين الحق، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع المعارضين الكفرة في إقرار ما هم عليه، وتهييج للمؤمنين للثبات على دينهم.
ثم ردّ الله تعالى على طعن اليهود والمشركين بتعدّد زوجات النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومضمون الرّد: كما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك جعلنا الأنبياء المرسلين قبلك من البشر، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ويتزوجون النساء، وينجبون الذّرّية والأولاد، فليس شأنك بدعا جديدا، فقد تقدّم هذا في الأمم، ثم زجر المقترحين من قريش بإنزال الملائكة، المتعجبين من كون الرسول بشرا، بأنه ليس في وسع النّبي محمد وغيره أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة إلا بإذن وتمكين من الله، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكل حادث أو كتاب أو كائن وقت معين وزمن محدد، ولكل وقت حكم يقرر على العباد، بحسب المصالح والأحوال {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} أي يبدل في الأشياء وينقلها كغفر الذنوب بعد تقريرها، ونسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها، وعند الله أصل الكتاب الدائم: وهو اللوح المحفوظ وعلم الله الشامل الذي لا يتغير في حقّه، وإن تبدّل في حقّ بني آدم، فتلك الأشياء المقدرة في الأزل، التي دونت في أم الكتاب، لا يصح فيها محو ولا تبديل لأن القضاء سبق بها وهي ما استقرّ في نهاية الأمر، وإن تغيّرت مسيرته. فأمّ الكتاب: هو ديوان الأمور المخزونة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن من غير تبديل.
الأمر بتبليغ الرّسالة:
لكل رسول من الرّسل الكرام مهمة واضحة ووظيفة محددة، من أجل صالح البشرية، وتصحيح مسيرتها، ووضع الأنظمة الملائمة لحياتها، وإذا تحققت هذه المهمة أو الوظيفة، أصبح مضمونها حجة على البشر، ووجب عليهم العمل بها، والتزام ما جاء فيها، لخيرهم وإسعادهم. وفي عالم الآخرة: الحساب والجزاء على ما يقدمه الناس من خير أو شرّ، ولا ينفع مكر أو كيد، أو إنكار وإهمال، أو هروب من المسؤولية. قال الله تعالى:


{وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)} [الرّعد: 13/ 40- 43].
يحدّد الله تعالى في هذه الآيات موقف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من ألوان طلبات المشركين العنادية، تبيانا للواقع، وتهدئة لنفس النّبي، ووعدا بنصره. وهذا الموقف يتجلى في أنه إن أريناك يا محمد في حياتك بعض وعيد المشركين من خزي ونكال، أو توفيناك قبل إرادتك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك، فمهمتك تبليغ رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به، وليس عليك تحقيق النتائج والتوصل إلى صلاحهم، وعلينا حسابهم ومجازاتهم على ما قدموا من خير أو شرّ. وقوله سبحانه: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} بتخصيص البعض بالذّكر: مفهومه أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار، مما يوعد به الكفار، وأن فتوحات المسلمين تأتي في المستقبل.
ألم ير أولئك المشركون في مكة أن الله يأتي إلى أرض الكفر، فينقصها شيئا فشيئا، ويفتحها المسلمون تدريجا، أرضا بعد أرض، ويتحقق لهم النصر، وتتسع أرض الإسلام على التوالي، حتى يعمّ الدنيا. والله يقضي القضاء المبرم، ولا يردّ حكمه النافذ، وليس لأحد أن يتعقّب أحكام الله، أي ينظر في أعقابها، فيناقشها أو يبطلها، وينظر أهي مصيبة أم لا؟ والله محاسب عباده قريبا في الآخرة، وعقابه آت لا محالة، فلا تستعجل عقابهم أيها النّبي، فإن الله محاسبهم ومعذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة. وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة والشمول، وليست بعدد قليل أو كثير.
وأما مكائد قومك قريش أيها النّبي فاصبر عليها ولا تأبه بها، فلقد مكر الكفار السابقون برسلهم، وأرادوا طردهم من بلادهم، وعذّبوهم، كما فعل النمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط، فمكر الله بهم، أي أحاط بمكرهم وأحبط خططهم وتدابيرهم. والمكر: ما يتمرّس بالإنسان، ويسعى عليه، سواء علم بذلك أو لم يعلم. وقوله سبحانه: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} أي العقوبات التي أحلّها بهم، وسماها مكرا على ما عرف: تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 2/ 15].
وفي قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} تنبيه وتحذير في طيّ إخبار، والمعنى: أن الله تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر، وسيجزي كل عامل بعمله، فينصر أولياءه، ويعاقب الماكرين. ثم توعّدهم الله سبحانه بقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي سيتحقق الكفار لمن تكون العاقبة المحمودة والنهاية الحسنة من الفريقين:
المؤمنين والكافرين، حيث تكون تلك العاقبة لأتباع الرّسل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا النصر، وفي الآخرة الجنة.
ثم ردّ الله على منكري نبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} أي يقول الجاحدون النّبوة: لست نبيّا مرسلا من عند الله، تدعو الناس لعبادة الله وحده، وهجر الأصنام والأوثان، وترك الظلم والفساد. فقل يا محمد:
حسبي الله وكافيني أنه شاهد لي بصدق رسالتي، ومؤيد دعوتي، بما أنزله علي من القرآن المعجز، ومن الآيات البيّنة الدالة على صدقي. وكفاني أيضا بعد شهادة الله:
شهادة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام اليهودي وأصحابه وتميم الداري وسلمان الفارسي، بما وجدوه لديهم في التوراة والإنجيل من بشارة برسالتي، وأوصاف لا تنطبق على من سواي.

1 | 2 | 3 | 4